لعلك لاحظت أثناء تعليمك للغة العربية أن أصعب مهمة تواجه المعلمين نقلُ الطالب من المستوى المتوسط إلى المستوى المتقدم، لأن نمطية المستويين المبتدئ والمتوسط متشابهة، وتطلب الاستدامة في سلوك المعلم والطالب لما بعد المتوسط، فما يتطلبه التعلم في المبتدئ والمتوسط مرور الوقت مع إنجاز المهام بوظائفها الصحية الصحيحة، للتنقل بين فتراتهما، لكنك بين المتوسط والمتقدم تجد أن طبيعة اللغة تختلف كمًّا ونوعًا، فأنت تقف أمام معانٍ مجردة، لا يمكن محاكاتها ونمذجتها بأدوات التفكير التي استعملتها في المستويين الأولين.
ومن ملامح المستوى المتقدم احتياج الطالب فيه إلى التعبير الاصطلاحي، وهو واحد من هذه الأدوات اللغوية التي نستعملها في القفزة المرجوّة بين المتوسط والمتقدم، وهو مُعين لغوي يجب أن يتفق الطالب والمعلم على ماهيته لتدويره في العملية التعليمية بصورة صحية.
ومما لم يرق لي في الوسط التعليمي ضبابية مفهوم التعبير الاصطلاحي، وغموض حده الذي يفصله عن التركيب اللغوي والمثل الشعبي وشعر الحكمة السائر، فشرعت في هذا المقال محاولا توضيح بعض معالمه، إذ المتصفح لكتب المنظّرين في الميدان، لا يجد ترجمة واضحة لكلمة IDIOM الإنجليزية، أو DEYİM التركية، ولعل أشهر ما في الباب قولهم “التعبير الاصطلاحي”.
في السطور التالية حاولت ضبط التعبير الاصطلاحي في حد واضح، حيث سأذكر بعض معايير ضابطة بناء على الهدف اللغوي المرجو من التعبير الاصطلاحي، ويمكنني أن أجمل هذه المعايير في خمس نقاط:
1- قد يتكون التعبير الاصطلاحي من مكوِّن واحد وهو الكلمة، مثل قولهم في اللهجة الشامية حائط: للشخص الغبي، وطبل: للشخص الفارغ، ولوح: للشخص المتجمد في مكانه أو ضخم الجسم، ومنفاخ: لمادح نفسه فارغ العطاء والخير، وهي كنايات فصيحة حملها اصطلاح أبناء اللغة إلى المعنى البعيد، وعدم قصد المعنى الحقيقي للكلمة. وقد يتكون التعبير الاصطلاحي من أكثر من كلمة، مثل: يبرق لي ويرعد: كناية عن التهديد، وأبر فلان وأبحر: كناية عن كثرة السفر، وهو يأكل الناس: كناية عن الغيبة، وأرض لا يطير غرابها: كناية عن خصوبتها، وأتى عليهم الدهر: كناية عن فنائهم، وقولهم: أتى قبل الشحادة وابنتها: كناية عن التبكير في القدوم.
2- إن الأمر الجوهري في عَدِّ التَّعبير الاصطلاحي حَمْلُهُ للمعنى المجازي، ومن المعاني المجازية التي يحملها التعبير الاصطلاحي الكنايةُ عن صفة، مثل: بَلَغَتِ الرُّوحُ التَّراقي، كناية عن قرب الموت، وهذا بلد قد شبعت غنمه، كناية عن خصوبته، وفلان ابن ثَرَاها، كناية عن المهارة والعلم، وجامد الكفِّ كناية عن البخل، وجليسُ نفسه، كناية عن العزلة، وثار ثائره وفار فائره، كناية عن شدة الغضب، وجَعلتُ سِرَّكَ على تُخومِ قلبي، كناية عن تذكره وعدم إغفاله، وخفيفُ الروح، كناية عن الظَّرْف. ومنها الكناية عن موصوف، مثل: آكلةُ اللحم، كناية عن السكين، أم الدماغ، كناية عن جلدة الرأس، وأم النجوم، كناية عن المجرة، والآلة الحدباء، كناية عن النعش، والبلد الحرام، كناية عن مكة المكرمة، وابن آدم، كناية عن الإنسان، وابن مخاض، كناية عن ابن الإبل الذي دخل السنة الثانية إلى آخرها، وبنات الدهر، كناية عن المصائب. ومنها التشبيه البليغ، مثل: فلانٌ أُذُنٌ، وهو أمة وحده، وفلان بحر زاخر وبدر زاهر، وفلان أرنب، وفلان رصاصة، وفلان ضرغام، وفلان فرعون، وفلان عفريت، وفلان طاووس. ومنها التشبيه المجمل، مثل: كأن في حلقه مزامير، وكأنه صفيحة يمانية، وكأنه ليث غابة، وكأن وجوههم المجان المطرقة، وكأن وَجهَهُ ورقةُ مُصحَفٍ، وكالخروف أينما اتكأ اتكأ على صوفه، وهو كحمار الطاحون، وفلان كالريح المرسلة.
ومنها المجاز المرسل علاقته المجاورة، مثل: البُردان: الغداة والعشي، البَصْرتان: البصرة والكوفة، الثَّقَلان: الجِنُّ والإنسُ، الدائبان: الليل والنهار أو الشمس والقمر، الرَّجَبان: رجب وشعبان، الأزهران: الشمس والقمر، الأسودان: التمر والماء، الوالدان: الأب والأم، ومنها المجاز المرسل علاقته المحلية، مثل: جاءت جبهة الخيل: خيارها، ومنها المجاز المرسل علاقته السببية، مثل: فيهم عين الماء: النفع والخير، ومالك به يدان: استطاعة أو قدرة. ومنها الاستعارة المكنية، مثل: رأس الدين، أرخى الليل سُدُولَهُ، ورَكِبَهُ شيطانُه، وكَلِمَةٌ سالمةُ العينين، وعبيد العصا، نتغذَّى به قبل أن يتعشَّى بنا، وأنشب في مخالبه، وانتعلتُ ظِلِّي. ومنها الاستعارة التصريحية، مثل: الجيف، بمعنى الكسالىوالجبناء، وكانت بينهم حبال، وأحلام نائم، ويعسوب قومه، ودبت بينهم العقارب، وأتتني عنك عين ثاقبة، ومُخُّ القوم، ونَابُ قومِهِ.
3- لابد أن يصطلح أهل اللغة على التعبير الاصطلاحي، وأن يكون معلوم الدلالة بينهم، حتى يسمى تعبيرًا اصطلاحيًا، ونستطيع أن نقسم التعابير الاصطلاحية باعتبار عموم الاصطلاح إلى تعبير اصطلاحي عام، يتفق عليه أبناء اللغة في مجملهم، فيعرفه كل من يتكلم بلسان هذه اللغة، لا يختلفون في فهمه مهما اختلفت لهجاتهم، وتعبير جزئي، يتفق عليه أبناء لهجة من لهجات اللغة، يُعرَفُ في إقليم من أقاليمها أو دولة من دولها دون إقليم آخر ودولة أخرى.
وهذا الاتفاق بين أهل اللغة مُعتَبَرٌ في الزمن الواحد، فقد يكون التعبير الاصطلاحي دارجًا في الزمن الماضي غيرَ دارج في زماننا، وعليه نستطيع تقسيم التعبير الاصطلاحي من حيث الاصطلاح الزمني، إلى تعبير اصطلاحي خامل، اصطلح عليه أبناء اللغة قديمًا، ثم لم يتداوله المعاصرون، وتعبير اصطلاحي نشط، وهذا التعبير الاصطلاحي النشط، يمكننا تقسيمه إلى تعبير اصطلاحي نشط موروث، تنقل بين أبناء اللغة سلفهم وخلفهم، وتعبير اصطلاحي محدث، أحدثه أبناء اللغة المتأخرين باصطلاح بينهم، فأخذ معناه الجديد وفق المعنى المجازي الذي حمَّله له أهل اللغة.
4- إن التعابيرَ الاصطلاحيةَ قابلةٌ للتغيير تركيبيًّا، وهذا واضح في الأمثلة التي ضربتها في الفقرتين الأولى والثانية من هذه المعايير، مثل: ثار ثائره وفار فائره، يمكنك أن تصرفها إلى ثار ثائرها وفار فائرها، أو ثار ثائرهم وفار فائرهم، وعليه فقس، ومن ثَمَّ يَخرُجُ المثل السائر، إذ يكون ثابت الأركان لا يتغير تركيبه، تطلقه كما رُكِّبَ، وتقصد به الأحوال المتغيرة، مثل: بين حانا ومانا طارت لحانا، وعادت حليمة لعادتها القديمة، ورجع بخفي حنين، فمثل هذه الأمثال لا يمكن أن نسميها تعابيرًا اصطلاحية، وإن اصطلح على معناها أهل اللغة، لأن تركيبها ثابت لا يتغير مع تغير السرد والسياق، وكذا ما سرى بين الناس من الأبيات الشعرية المعتبرة من الأمثال، مثل: ما كل ما يتمنى المرء يدركه – تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، ومثل: بذا قضت الأيام ما بين أهلها – مصائب قوم عند قوم فوائد، ومثل: لا تحسبوا رقصاتي لكم طربا – فالطير يرقص مذبوحا من الألم، فهذه الأشعار ثابتة لا تتغير بنيتها، حال الشعر عمومًا. لذا وجب إخراجها من مجمل التعبير الاصطلاحي.
5- إن التعابير الاصطلاحية قابلة للتغيير دلاليًا، فمما تتغير دلالتها قولهم: “روح القدس” إذ يحمل دلالتين، الأولى بمعنى جبريل عليه السلام، والثاني عصمةُ الله وتوفيقُهُ، ومثل: “الأبيضان” بمعنى الشَّحْمِ والشباب، واللبن والماء. ومثل: “بنات الليل” يأتي بمعنى النساء، ويأتي بمعنى المُنى والأحلام، ومثل: “الطرفان“ بمعنى الآباء والأجداد، أو اللسان والفرج، أو الفمُ والاِسْتُ، وعليه نستطيع تقسيم التعابير الاصطلاحية إلى ثابتة الدلالة، لا تتغير دلالتها الاصطلاحية من معنى إلى آخر، وإلى متغيرة الدلالةـ تتغير دلالتها وتتعدد بين العديد من المعاني.
تتضح من السرد السابق بعض ملامح التعبير الاصطلاحي، وهو يختلف عن القالب الثابت أوالتركييب اللغوي، الذي يتصل بالنحو ويكون مخرجا لقاعدة لغوية مبسطة للتمثيل والربط مع المهارات التواصلية، مثل: لولا.. ما .. ، مثل: “لولا المًربي ما عرفت ربي” فهذا قالب أو تركيب لغوي وليس تعبيرًا اصطلاحيًا، إذ لم يخرج عن معناه إلى معنى مجازي مصطلح عليه، وكذا يختلف التعبير الاصطلاحي عن المثل، إذ المثل ثابت الأركان لا يتبدل ولا يتغير، يطلق بتصريفه الثابت، مثل “رجعت حليمة لعادتها القديمة”، فلا تتغير ضمائره ولا علامات الإعراب والبناء، وكذا يختلف عما كان من الشعر مثلًا، كقول الشاعر: تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فهذا له ما للمثل، ويقال فيه ما قيل في ذاك، ولنا جولة أخرى مع التعبير الاصطلاحي، لسرد نظرة المتقدمين والمتأخرين للتعابير الاصطلاحية، لننقل بعض آرائهم وأقوالهم، فانتظرونا في مقال آخر رديف، في قادم الأيام.
المراجع والمصادر
ابن فارس (أبو الحسين أحمد). متخير الألفاظ. تحقيق: هلال ناجي. المكتب الدائم لتنسيق التعريب في الوطن العربي، بلا تاريخ.
أبو هلال العسكري (الحسن بن عبد الله بن سهل). جمهرة الأمثال. تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم وعبد المجيد قطامش. القاهرة: المؤسسة العربية الحديثة، 1952م.
الثعالبي. التمثيل والمحاضرة. تحقيق عبد الفتاح محمد الحلو. الرياض: الدار العربية للكتاب، 1983م.
الرامهرمزي (الحسين بن عبد الرحمن بن خلاد). أمثال الحديث. تحقيق: عبد العلي العظمي. الهند – بومباي: الدار السلفية، 1983م.
الميداني (أبا الفضل أحمد بن محمد النيسابوري). مجمع الأمثال. بيروت: منشورات دار مكتبة الحياة، 1961م.
عصام الدين عبد السلام أبو زلال. التعابير الاصطلاحية بين النظرية والتطبيق. القاهرة: أجيال لخدمات التسويق والنشر، 2007.
محمود إسماعيل صيني. المعجم السياقي للتعبيرات الاصطلاحية. بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، 1996″K