لماذا "عتبات"؟ من فكرة شخصية إلى مشروع نهضوي
في لحظة مفصلية من غربتي، وبين همومي الشخصية في تربية أولادي، وهمومي المهنية في تطوير تعليم اللغة العربية، وجدت نفسي أقف على “عتبة”…
لم تكن تلك العتبة حجرًا ولا بابًا، بل كانت عتبة فكرية ونفسية: إما أن أكتفي بإنقاذ بيتي الصغير من طوفان التراجع الثقافي، أو أفتح الباب واسعًا على مشروع يمتد أثره لأبناء المهجر في مشارق الأرض ومغاربها.
ثم أخذ الهدف مجراه الطبيعي نحو نهضة التعليم في بلادنا العربية، لأنها النواة الأولى، ومنها يُصاغ قرار النهضة، القرار الذي استدعته تجربة الاغتراب، وتقوم به السواعد العربية، وفق منهجية صممتها بعناية في “عتبات”، وأفصّلها لاحقًا عبر عشرة مواسم متكاملة، هي جوهر هذا المشروع.
من الهندسة إلى اللغة: هجرة داخل الهجرة
حين جئت إلى تركيا، كنت أحمل شهادتين جامعيتين: واحدة في الهندسة الكهربائية، وأخرى في اللغة العربية وآدابها. اشتغلت في بداياتي في شركة تركية تعمل في مشاريع القدس، وكنت فخورًا أن أضع بصمتي الهندسية في خدمة قضية سامية. لكن شيئًا ما كان يتغيّر من حولي…
أطفالي يكبرون. هويتهم العربية تتآكل ببطء. الغربة لم تكن جغرافية فقط، بل ثقافية أيضًا.
وهكذا بدأت رحلتي مع دراسات الثقافة الثالثة، والتحقت ببرامج الماجستير ثم الدكتوراه في تعليم اللغة العربية، متخصّصًا في بناء مناهج تعليم أبناء الثقافة الثالثة، واستقريت أكاديميًا في جامعة إسطنبول آيدن التي أعمل فيها منذ أكثر من عشر سنوات.

من البيت إلى المشروع
كنت أبحث عن أدوات تساعدني لا في حماية هوية أولادي فقط، بل في دعم كل من يحمل همّ اللغة والهوية في المهجر. أنشأت في عام 2018 برنامجًا بحثيًا بعنوان “الفراهيدي”، وكان بمثابة مختبر فكري ضم أكثر من 200 طالب وطالبة من أوروبا وأمريكا، وانتهى بتأليف أول كتاب عربي يتناول تعليم أبناء الثقافة الثالثة العرب.
لكن مع هذا كله، ظلت المشكلة قائمة: نحن مبعثرون في الرؤى، متفرقون في الجهود. فبدأت أتواصل مع خبراء في التعليم والثقافة من أنحاء العالم، من اليابان إلى كندا، وكنت أسمع قصصًا وتجارب ثمينة، لكنها تظل محصورة في زوايا محددة. وهنا ولدت فكرة “عتبات”.

ولادة “عتبات”: صوت الفكرة الحرة
كنت أدرك أن الإعلام هو الوسيلة الأقوى، لكنني لست إعلاميًا. فتوجهت إلى أكاديمية “فوكس” في دبي، وتلقيت تدريبًا احترافيًا مكثفًا على يد الإعلامي والمدرب القدير عمار شهاب، الذي درّب مذيعين في كبرى القنوات الإخبارية العربية.
وقد أتاح لي هذا البرنامج التكويني ليس فقط التعرّف على أصول العمل الإعلامي، بل أُجزت بعده بدبلوم مهني في الإعلام، فكانت تلك الخطوة نقطة تحوّل حقيقية.
وكان نتاج ذلك أول بودكاست عربي تربوي فكري متخصّص في الثقافة والتعليم واللغة: بودكاست عتبات.
لكن “عتبات” لم يكن لقاء شخصين وفكرة عابرة. لقد بنيته ليكون مرجعًا عربيًا تربويًا لكل معلم، ولكل مدير، ولكل صانع محتوى يسعى لتغيير حقيقي.

خارطة المواسم العشرة: خطة فكرية تربوية متكاملة
ما يميّز بودكاست عتبات أنه ليس إنتاجًا تلقائيًا أو اجتهادًا فرديًا عابرًا، بل مشروع فكري معرفي متكامل، يقوم على خطة إنتاج طويلة المدى موزعة على عشرة مواسم رئيسية، صُمّمت بعناية لتغطي محاور جوهرية في قضايا الهوية والتعليم والفكر والثقافة.
والمواسم على النحو التالي:
الموسم الأول: مضامين الثقافة العربية من قرآن وسنة وأدب وفن، لتمييز الثقافة الجيدة من السقيمة.
الموسم الثاني: التأثيرات السلبية الخارجية على الثقافة، مثل النسوية، التنصير، الفرنسة، وخلع الحجاب.
الموسم الثالث: المضامين الغائبة عن مناهجنا، مثل أدب السجون، الأمن السيبراني، وتوجيه الترجمة.
الموسم الرابع: المعلم صانع ثقافة، ودوره في التشكيل القيمي والرمزي للطالب من خلال المواقف اليومية.
الموسم الخامس: اللغة والهوية – تحديات الجيل الثالث، ويركز على اللغة كحامل للهوية في بيئات الاغتراب.
الموسم السادس: المدرسة والمجتمع، ويقترح نماذج تربط المدرسة بالمحيط الثقافي المحلي والواقع المجتمعي.
الموسم السابع: المحتوى التعليمي من يُؤلفه؟ ويراجع سياسات التأليف وعلاقة المعلم بالمحتوى والمنهج.
الموسم الثامن: الخريطة والتفكير، ويتناول فلسفة التعليم، وأثر البيئات المختلفة على تشكيل المعرفة.
الموسم التاسع: القراءة كعملية عقلية، ويركز على تنمية التفكير النقدي وإعادة بناء المناهج.
الموسم العاشر: التعليم في زمن التحولات، ويستعرض قضايا مثل الذكاء الاصطناعي والتعليم الرقمي.
وقد رُوعي في تصميم كل موسم أن يتراوح عدد حلقاته بين 11 إلى 14 حلقة، تبعًا لعمق المحور واستكمال معالجته من جوانبه الفكرية والتربوية كافة.
وبناء على ذلك، فإن العدد الكلي المتوقع لحلقات المشروع يصل إلى نحو 125 حلقة.
وقد تم إنجاز ثلاثة مواسم كاملة حتى الآن، بمجموع 37 حلقة:
الموسم الأول: 14 حلقة
الموسم الثاني: 11 حلقة
الموسم الثالث: 12 حلقة
ونحن الآن في طور الإعداد النهائي لإطلاق الموسم الرابع، مع التزامنا الثابت بإتمام الرحلة على ذات النهج: علميًا، منهجيًا، وتربويًا.

التأثير المتحقق: أرقام وشهادات وأثر في القلوب
بودكاست عتبات الآن في عامه الثاني، وقد بلغت مشاهداته على منصة يوتيوب وحدها ما يقارب 6 ملايين مشاهدة حتى لحظة كتابة هذا المقال، وأكثر من 10 ملايين مشاهدة عبر مختلف المنصات الرقمية، دون أي تمويل إعلاني أو رعاية تجارية، بل بجهد مستقل وهمة معرفية خالصة.
وإذا تجاوزنا حدود القنوات الرسمية، وتحدثنا عن المقاطع المنتشرة والمأخوذة من الحلقات الأصلية، والتي سمحنا بإعادة نشرها على منصات مختلفة في إطار سياسة نشر المعرفة وتوسيع أثرها، فإن الأرقام الفعلية للمشاهدات تتجاوز هذا الرقم بأضعاف مضاعفة، في دلالة واضحة على أن “عتبات” لم تكن مجرد برنامج، بل صوتًا معرفيًا حرًّا انطلق من الناس وإليهم عاد، دون أن نتلقّى أي دعم للترويج أو الإعلان – إذ بلغ عدد مرات الترويج المدفوع صفرًا تامًا حتى اليوم.
لقد جاء الجمهور إلينا بإرادته، لا بدعوة ممولة ولا عبر حملات دعائية. وهذا ما نعدّه مصدر فخر، ودليلًا على صدق الفكرة وحاجة الساحة إليها. ومع ذلك، فإننا نؤمن أن توفر الحد الأدنى من الدعم الإعلاني والترويجي سيضاعف الأثر، ويوصل رسالة “عتبات” إلى شرائح جديدة، وهذا ما نطمح إليه: دعم يساند التمويل الذاتي ويُعزّز الوصول، دون أن يُغيّر جوهر الرسالة.
لكن الأرقام وحدها لا تروي القصة.
الرسائل وردود الأفعال التي وصلتنا عبر التعليقات وبريد “عتبات” كانت تثلج الصدر، وتؤكد لنا أننا لا نسير وحدنا. كلمات المشاهدين كانت تعبّر بصدق كما لو أن الناس كانت تنتظرنا لنُطلق “عتبات”، لتجد فيه ما افتقدته طويلًا من طرح عميق، ونقاش راقٍ، ووعي لا يُساوم.
مقاطعنا القصيرة تجاوزت حدود الجغرافيا، وبلغ أحدها أكثر من مليون وأربعمئة ألف مشاهدة، وكانت التعليقات عليه وسامًا على صدورنا، وشهادة صادقة بأن “عتبات” لم تكن مجرد مادة معرفية، بل وصلت إلى القلوب، وحركت شيئًا في داخل الإنسان العربي المتعطش لفهم ذاته وهويته.

الطموح: أن نكون مرجعية معرفية عربية
نطمح في “بودكاست عتبات” إلى أن نكون مرجعًا تربويًا معرفيًا يُسهم في بناء وعي جديد بالتعليم واللغة والثقافة، مستلهم من هويتنا الحضارية، ومنفتح على معطيات العصر. رؤيتنا تتكامل مع أهداف رؤية 2030 في الدول العربية الساعية للنهضة، إيمانًا بأن النهضة لا تبدأ إلا من التعليم.
بدأ المشروع بتمويل ذاتي مستقل، دون دعم من أي جهة، كخطوة أولى لبناء مشروع تربوي مستقل ومؤثر. لكننا نؤمن أن الأثر الحقيقي لا يتحقق إلا بالتكامل والشراكة.
ولهذا، فإننا في “عتبات” منفتحون على جميع الشراكات والتفاهمات المعرفية، لأننا نؤمن أن الجميع معنيّ بالحفاظ على اللغة والثقافة، فهما يشكّلان ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، ويشكّلاننا نحن العرب في أعمق تعريفاتنا.
وطموحنا أن تكون مؤسسة عتبات في المستقبل القريب رائدة التواصل المعرفي في الوطن العربي، عبر تقديم محتوى علمي وتربوي عابر للحدود، يربط بين أهل الفكر والميدان، ويجسر الهوّة بين المؤسسات التعليمية والواقع الثقافي المتجدد.
وليس هذا الطموح مجرد أمنية نظرية، بل رؤية عملية نُخطّط لها بعناية، حيث نعمل على أن تقود “عتبات” ريادة التواصل المعرفي في خمسة مسارات متكاملة:
البودكاست المعرفي
التدريب المعرفي
المنتدى المعرفي
المدونة المعرفية
المتجر المعرفي
وكل ذلك بأسلوب مبتكر، سنفصح عن ملامحه عند إطلاق مشروعنا المتكامل قريبًا بإذن الله، ليكون نموذجًا مؤسسيًا عربيًا يُعيد الاعتبار للمعرفة بوصفها القوة الناعمة الكبرى.
ولعلّ من دلائل تحقق هذا الطموح أن “عتبات” بدأت تُتخذ نموذجًا أكاديميًا في رسائل الماجستير، ويُكتب عنها في أروقة الجامعات، كما حصل مؤخرًا في جامعة إسطنبول آيدن، بما يؤكد أن المشروع لم يعد مجرد فكرة… بل بات مرجعًا حاضرًا في الفكر والممارسة.
لقد كان مصطلح التواصل المعرفي حبيس الكتب والدراسات الأكاديمية، لكننا في “عتبات” سنحوّله إلى بنية نهضوية حقيقية، نُفعّل من خلالها الفكر، ونُعيد توجيه الخطاب، ونتّسق مع المسارات الاستراتيجية للدول العربية الرائدة معرفيًا، لنُسهم في تكامل الجهود، وتناسق الرؤى، وتثبيت مكانة الفكر في صميم مشروع النهضة.
وسيكون اسمنا بإذن الله: مؤسسة عتبات للتدريب والتواصل المعرفي.

أعمدة الفكرة وسواعد التنفيذ
شهورًا طويلة كنت أجلس في مقاهي الحوارات الهادئة مع الصديق العزيز الدكتور إياس غالب الرشيد، وبين فناجين القهوة وملفات التصور، كانت عيناه تلتقط التفاصيل الدقيقة، وكانت رؤيته الإعلامية المحكمة دليلًا لكل قرار. نسجنا معًا خيوط “عتبات” ورفعنا بنيانه، فكرةً فكرةً، وحلقةً حلقة.
كما أخص بالشكر الدكتور حسن العثمان، بإرشاداته اللطيفة وتوجيهاته البصيرة في اختيار الضيوف، والدكتور فايز عوض، والدكتور ماهر الرفاعي، والدكتور مؤمن العنان، والدكتور عبد الله هنانو، والدكتور باسم عيتاني، والدكتور صبح البداح، والدكتور سيف السويدي، والدكتور فيصل الحفيان، والدكتور أنس سرميني، والدكتور عارف جمعة، والأستاذ أنس عزت والأستاذ أنس خطاب، الذين كانوا جميعًا سندًا فكريًا صادقًا، ومرافقة معرفية منحت هذا المشروع عمقه واتزانه، ودلّته على الطريق في محطات مفصلية.
وإن كان الفكر هو الخريطة، فإن الصورة كانت الواجهة.
لم تكن الطريق مفروشة بالورود؛ فإنتاج إعلام احترافي بجودة عالية تنافس المعايير العالمية لم يكن يسيرًا، بل كان أشبه بنحت الصخر، وعجز الظهر، وحساب كل تفصيلة بميزان الهمّة لا الميزانية. تكاليف الإنتاج على عاتق فرد واحد كانت تختبر الإيمان بالفكرة كل يوم.
ولم يكن يكفي أن نُنتج، بل أن نصنع أثرًا. وهنا كان لا بد من فريق يحمل الروح لا المهارة فقط، يعرف كيف ينتقي من لآلئ الضيوف، وينسج منها مقاطع تختصر رسائل عتبات، وتعكس رؤيته العميقة. فليس كل يد قادرة على التقاط جوهر الكلمة، ولا كل عدسة تصل إلى قلب الرؤية.
وهنا أرفع شكري وتقديري لـ فريق بودكاست عتبات المتميّز، الذي ترجم الحلم إلى صورة، والفكرة إلى منظومة.
من صناعة الهوية البصرية، إلى المونتاج والتصميم، والإخراج والتصوير، وإدارة العمليات، كنتم لبنات صادقة في هذا البناء المعرفي.
لكم مني كل الود والوفاء والمحبة.

الختام: لن نرتقي إلا معًا
“بودكاست عتبات” ليس عن د. علي الخولي، بل عن كل من يسأل:
“كيف نحمي أبناءنا من الذوبان؟”
“كيف نعيد للتعليم روحه، وللهوية جذورها، وللثقافة دورها؟”
نقول لكل من تابعنا: بكم نرتقي.
ونقول لكل مؤسسة تعليمية:
“النهضة مسؤولية جماعية، وصوت واحد لا يكفي… فهلموا إلى العتبة.”
📍 تابعونا وكونوا جزءًا من رحلتنا المعرفية عبر المنصات الرسمية لـ بودكاست عتبات:
🔹 YouTube – بودكاست عتبات
🔹 LinkedIn – بودكاست عتبات
🔹 Facebook – بودكاست عتبات
🔖 #د_علي_حسن_الخولي | #بودكاست_عتبات